ما بعد ماعشر الصائمين:
سعادةٌ غامرة تملأ جوانحنا إذ بُلِّغنا هذا الشهر العظيم، فالقلوب يتجاذبها خوفٌ ورجاءٌ، والألسن تلهج بالدعاء أن يتقبّل الله الصيام والقيام لنا ولكم ولجميع المسلمين، أن يتقبل الله منا ما مضى، ويبارك لنا فيما بقي، فطوبى لمن اغتُفِرت زلتهُ، وتُقُبّلت توبتُه، وأقيلت عثرته. في نهاية الشهر العظيم نشكره سبحانه شكر من أنعم على عباده، بتوفيقهم للصيام والقيام، وإعانتهم عليه، ومعونته لهم، وعتقهم من النار، قال تعالى: وَلِتُكْمِلُواْ ٱلْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ .
عباد الله:
هكذا مضت الليالي مسرعة، بالأمس كنا نستقبل رمضان، واليوم نودِّعه، ولا ندري هل نستقبله عاماً آخر أم أن الموت أسبق إلينا منه، نسأل الله أن يعيده عليها وعليكم أعواماً عديدة وأزمنة مديدة.
إذا كنا نودّع رمضان فإن المؤمن لن يودّع الطاعة والعبادة، بل سيوثِّق العهد مع ربه، ويقوي الصلة مع خالقه ليبقى نبع الخير متدفقاً، أما أولئك الذين ينقضون عهد الله، ويهجرون المساجد مع دخول العيد، فبئس القوم: لا يعرفون الله إلا في رمضان، قد ارتدوا على أدبارهم، ونكصوا على أعقابهم، قال تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ .
لا قيمة لطاعة تؤَدَّى دون أن يكون لها أثر من تقوى أو خشية، أين أثر رمضان بعد انقضائه إذا هُجر القرآن، وتُركت الصلاة مع الجماعة، وانتُهكت المحرمات؟! أين أثر الطاعة إذا أُكل الربا، وأُخذ أموال الناس بالباطل؟! أين أثر الصيام إذا أُعرض عن سنة رسول الله إلى العادات والتقاليد،؟! أين أثر الصيام والقيام إذا تحايل المسلم في بيعه وشرائه، وكذب في ليله ونهاره؟! أين أثر رمضان إذا لم يقدّم دعوة إلى ضال، ولقمة إلى جائع، وكسوة إلى عارٍ، مع دعاء صادق بقلب خاشع أن ينصر الله الإسلام والمسلمين، ويدمّر أعداء الدين؟!
يا أهل الطاعة، اللهُ لا يريد من سائر عباداتنا الحركات والجهد والمشقة، بل طلب سبحانه ما وراء ذلك من التقوى والخشية له، قال تعالى: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ، وقال تعالى: لَن يَنَالَ ٱللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَـٰكِن يَنَالُهُ ٱلتَّقْوَىٰ مِنكُمْ .
أيها المسلمون:
لقد غرس رمضان في نفوسنا خيراً عظيماً، صقل القلوب، أيقظ الضمائر، طهّر النفوس، ومن استفاد من رمضان فإن حاله بعد رمضان خير له من حاله قبله، ومن علامات قبول الحسنة الحسنة بعدها، ومن علامات بطلان العمل وردّه العودة إلى المعاصي بعد الطاعات، فاجعل – أخي الصائم – من نسمات رمضان المشرقة مفتاح خير سائر العام، ومنهج حياة في كل الأحوال، احرص على بر الوالدين، وصلة الجيران، وزيارة الإخوان، انصر المظلومين، وتلذذ بمسح رأس اليتيم، أصلح ذات البين، وأطعم المحرومين، واجبر نفوس المنكسرين، ساهم في زرع السعادة على شفاه المصابين والمبتلين، صل رحمك، احفظ عرض إخوانك، كن نبعاً متدفقاً بالخير كما كنت في رمضان.
أيها العباد:
لقد تعلمنا في مدرسة رمضان أنجع الدروس وأبلغ المواعظ، تعلّمنا كيف نقاوم نزغات الشيطان، تعلمنا كيف نقاوم هوى النفس الأمارة بالسوء، تعلمنا كيف ننبذ الخلاف وأسباب الفرقة. لقد تراصَّت الصفوف في رمضان كالسجد الواحد، فينبغي أن لا تتناثر بعد رمضان، لقد سكبت العيون الدموع في رمضان، فاحذر أن يصيبها القحط والجفاف بعد رمضان، لقد اهتزت جنبات المساجد، ولهجت الألسن بالتهليل والتحميد والدعاء، فليدم هذا الجلال والجمال بعد رمضان، لقد علا محياك في رمضان سمت الصالحين، ذلٌّ وخضوع، إخباتٌ وسكينة، وقارٌ وخشية، فلا تمحه بعد رمضان بأخلاق الزهو والكبر والبطر والسفه، لقد امتدت يداك في رمضان بالعطاء، وأنفقت بسخاء، فلا تقبضها بعد رمضان.